كتب : الدكتور عبدالله الطوالبة
أول انطباع يخرج به قارئ التقرير الخاص بحادث الرابية، كما نشرته الصحافة الورقية الحكومية، ذاك النزوع الشعاراتي الحماسي الفزعوي الطابع، البعيد عن المهنية الإعلامية صياغة ومضمونًا.
ويلاحظ في صياغة التقرير الإخباري تحاشي ذِكر وقوع الحادث قرب مكاتب سفارة العدو، والسبب معروف طبعًا، ونجده في ارتعاد فرائص “بعضنا” من اسرائيل وخشيته منها أكثر من عزرائيل.
ولكي يكون كلامنا معززًا بالأدلة القاطعة، لنعرض التقرير بإيجاز قدر المستطاع، كما نُشر في صحافة الحكومة.
يبدأ التقرير بزيارة رئيس الديوان الملكي للمصابين والإطمئنان عليهم مندوبًا عن الملك، وهذا أول خطأ مهني ارتكبته صحافة الحكومة. لماذا؟ الزيارات للإطمئنان على صحة المصابين يُفترض أن تنشر في تقرير اخباري منفصل، لأنها لا تهم أحدًا، والقارئ يبحث عن معلومات تتعلق بما حصل هي الأهم كما يُفترض، ولا يعنيه من زار واطمأن.
أهم فقرة وردت في البداية، أن العيسوي اطمأن”على الوضع الصحي لرجال الأمن الذين تعرضوا لإصابات بحادثة إطلاق نار على إحدى دوريات الأمن العاملة في منطقة الرابية بالعاصمة”. إذن، رجال الأمن بحسب هذه البداية هم المستهدفون. هنا، انفتحت شهية القارئ لمعرفة تفاصيل تتعلق بالسؤال: لماذا استهداف رجال الأمن، ولماذا اختيار دورية راجلة في الرابية تحديدًا، وقرب مكاتب سفارة الكيان الشاذ اللقيط بالذات؟!!!
يُفترض من زاوية المهنية الإعلامية أن يسلك مُعِدُّ التقرير الإخباري الاتجاه الذي تفرضه هذه الأسئلة، لتزويد القارئ بما يهمه ويبحث عنه وتعنيه الإضاءة عليه. لكن صحافة الحكومة وصحافييها وصُحَيْفِيَّاتها، سلكوا طريقًا آخر لا علاقة له بالمهنية الإعلامية، ولا ينتسب إلى أصولها وأبسط قواعد ممارستها. فقد أُقحم القارئ عنوة بتفاصيل عمن استمع إليهم العيسوي ليطمئنوه عن حالة المصابين، ثم ينتقل التقرير إلى زيارة كل من رئيس الحكومة ووزير الداخلية، ليطمئنَّا بدورهما أيضًا على المصابين. لغاية هذه اللحظة، كل ما ذكرنا لا علاقة له بالإعلام، والأهم، ليس هذا ما يريده القارئ.
بعد ذلك ينقلنا التقرير الإخباري، إلى تصريحات شاعر القبيلة، أي الناطق الرسمي، بخصوص الحادث. وسنبسطها كما وردت في التقرير بحرفها وحذافيرها، ونترك الحكم للقارئ. الفقرة الأولى في تصريح شاعر القبيلة:”من جهته قال وزير الإتصال الحكومي، الناطق الرسمي بإسم الحكومة، إن ما جرى في الرابية اعتداءٌ نعتبره حادثًا ارهابيًّا”. نرى في هذا الكلام خطأً مهنيًّا فظيعًا وقع به الناطق الرسمي، فاقع مثل فلق الصُّبح. القضاء يقرر ما إذا كان ما حصل عملًا إرهابيًّا أم لا، وليس شاعر القبيلة. وكيف سيكون موقف شاعر القبيلة إذا ما تبين أن مُطلق النار لا علاقة له بأية تنظيمات سياسية، وأنه يعاني من اضطرابات نفسية، وأعلنت ذلك الجهات المختصة جهارًا نهارًا، بعد حين؟!!!
ونكمل مع الناطق الرسمي، حيث أورد مُعد التقرير الفِقرة التالية على لسانه، نبسطها تاليًا كما هي:”وأكد … في تصريحات صحفية أن الأردنيين يرفضون الإعتداء على رجال الأمن بشكل قاطع، ويلتفون حول قواتهم الأمنية وجيشهم في واجبهم المقدس للحفاظ على أمن واستقرار المملكة”. بالله عليك صديقي القارئ، أريدك أن تجيب بينك وبين نفسك على سؤال واحد أكتفي بتوجيهه إليك: هل تهمك هذه اللهوجة الإنشائية الطافحة بالعواطف الصبيانية؟!!!
كل ما تضمنه التقرير من تصريحات الناطق الرسمي في الصدد يمضي على هذا النحو، ومنه نقبس على سبيل الاختصار: “رجال الأمن تعرضوا لغدر من خارج على القانون استهدف حياتهم، وقاموا بواجبهم الوطني والاحترافي في الحفاظ على أمن واستقرار البلاد”. “إن تقارير وردت للجهات المعنية، حول اعتداءٍ تعرض له رجال الأمن من قبل شخص باستخدام سلاح أوتوماتيكي وقاموا بالتعامل معه وتطبيق قواعد الاشتباك”. “هذه الاعتداءات جرت من خارج على القانون، ومن أصحاب سجلات جرمية ومخدرات على قوات الأمن العام من نشامى الأمن العام (هكذا ورد في التقرير الإخباري)، مرفوضة ومدانة من كل أردني شريف”. “المطلوب اليوم هو إعلاء حالة الوعي الوطني من قبل المواطنين كافة، والقوى السياسية والحزبية المختلفة، وأن ندرك تمامًا اللحظة الأمنية التي يعيشها الإقليم”. “وشدد على أننا في الأردن نعمل بكل طاقتنا لتحصين بلدنا من هذه الأخطار، مبينًا أن الأردن المستقر القوي هو الأقدر على الدفاع عن مصالح أمته وفي الصفوف الأمامية لذلك، داعيًا إلى أن نكون صفًّا واحدًا وقوة صلبة في التعامل مع التحديات المختلفة التي نواجهها”. ” وختم بالقول، إن التحقيقات مستمرة حول الحادث الارهابي الآثم لمعرفة كافة التفاصيل والارتباطات وإجراء المقتضيات الأمنية والقانونية بموجبها”.
لنا أن نلاحظ التركيز “أمن واستقرار الأردن”. لغةً، ورد هنا خطأ شنيع، لكننا بَسَطنا الكلام كما نُشر. فلا يجوز في لغة الضاد إضافة مضافين إلى مضاف إليه واحد، وعليه، فالصحيح القول: أمن الأردن واستقراره، وليس أمن واستقرار الأردن. ولا بد أن القارئ لحظ التركيز على “الإعتداء على رجال الأمن”، وسيل التحذيرات، و”ضرورة رص الصفوف للتعامل مع التحديات”، وغير ذلك من كليشيهات سئمت الإجترار ومَلَّت التكرار. ولا ندري من فوَّض الناطق الرسمي بتحديد “الأردني الشريف” وغير الشريف؟!!! وليته يطلعنا على المسطرة، التي استخدمها في هذا التحديد، ومن أين حصل عليها؟!!! ومن فوض الناطق ليتحدث باسم الأردنيين، ومن أنبأه بأن الأردنيين يوافقونه في مواقفه وما يصرح به؟!!! وإذا كانت التحقيقات مستمرة لمعرفة التفاصيل، كما قال الناطق، فلماذا تسرع، سامحه الله، وأصدر ما ورد في تصريحاته من أحكام؟!!!
وبالإنتقال إلى تصريحات مصدر أمني تضمنها التقرير، نفهم أن مطلق العيارات النارية مطلوب، وله سجل جرمي سابق، على خلفية قضايا جنائية عدة، من أبرزها المخدرات. ولفت إلى أنه قد بادر وبشكل مباشر باطلاق العيارات النارية تجاه طاقم دورية أمنية (نجدة) كانت تتواجد في المكان قاصدًا قتل أفرادها بواسطة سلاح أتوماتيكي مخبأ بحوزته، إضافة إلى عدد من الزجاجات والمواد الحارقة. أما باقي التقرير، ومن دون الخوض في تفاصيله، فقد جاء وفق نهج “ردود الفعل” المتبع في الصحافة الورقية الأردنية، ولا يضيف أي معلومة تهم القارئ.
تقرير اخباري يُشغل جيزًا لا بأس به، لا نعثر فيه على معلومة تهم القارئ سوى إطلاق النار على دورية أمن عام (نجدة)، في مكان ما في الرابية. هذا الشخص صاحب سوابق، أخطرها المخدرات. لكن التقرير والإعلام الرسمي الأردني كله تقريبًا، تهرب من التصريح أو حتى التلميح إلى وقوع قرب سفارة الكيان، مع أن هذه الجزئية أكثر ما لفت انتباه وسائل الإعلام الخارجية. هنا، تفرض نفسها أسئلة عدة: هل المستهدف رجال الأمن بالذات أم كان في نية مطلق النار استهداف سفارة الكيان؟! وبناء على ما قيل بخصوص أسبقياته الجرمية، هل أقدم على ما فعل تحت تأثير مواد مخدرة مثلًا، أم فعل ما فعل بكامل قواه العقلية؟!!! وهل كان مدفوعًا بتأثير ما يشاهد من فظاعات يقارفها العدو، في غزة ولبنان، أم أن الدوافع مختلفة؟!
أسئلة اختار التقرير بدلًا من الإجابة عليها، شحننا بكمٍّ من الإستعراضات العاطفية المسئمة تصلح للقاء انتخابي أو في خطبة مسجد، وليس في تقرير صحفي.