ماعينيات 3
كتب : المهندس خالد باز حدادين
تَبًّا لكلِّ من يعلنون الحرب على ثلجٍ لم يأتِ بعد وهم يتنباؤون . يستعدّون ويستعدّون، يُمَوّنون
ويُجَهِّزون، كأنّ الثلجَ إذا جاء هو أحدُ أعدائهم. يناقشون استراتيجياتِ الهجوم، يحصّنون البطونَ قبلَ
الروحِ بوَعْدِ المؤن، يسحبون سيوفَ دون كيشوت من غِمدها ليُقاتلوا طواحينَ هواءٍ ثلجية، كأنّ
الثلجَ وحشٌ قادمٌ من العدم، لا قَصيدةٌ تنزلُ من السماء. هؤلاء لا يعرفون معنى أن يكونَ هناك
ثلج، لم يلامسوا برودته في وجوهِهم الطفولية، لم يسيروا حفاةً فوقه حتى يُخدِّرَ أطرافهم، لم
يدفنوا أصابعهم فيه ليستخرجوا منها نورًا خفيًّا. يا ليتهم عاشوا معنا في ماعين، قبل أكثر من
خمسين عامًا، حين لم يكن الثلج خبرًا طارئًا، بل يقينًا يُولدُ مع صمتِ الليلِ الطويل.
لم يكن شيوخُ القريةِ يقرؤون صحفًا غيرَ موجودة، أو يُتابعون مواقعَ انقطاعٍ اجتماعيٍّ لم تكن قد
وُلِدت بعد، أو ينتظرون أخبارَ تلفزيوناتٍ لم تصل إلى ماعين، ولم يتجادلوا في نقاشاتٍ عقيمةٍ على
شاشاتٍ لم تأتِ بعد، لكنهم كانوا يعرفون، وكفى. لم يكونوا بحاجةٍ إلى خرائط الرياح، ولا إلى أقمارٍ
صناعيةٍ تُملي عليهم ما يرونه في السماء. كان جدي يسيرُ من البيت إلى البستانِ كمن يقرأُ كتابًا
مقدّسًا مكتوبًا بالهواءِ، عيناهُ لا تنظران، بل تخترقان، كأنهما تبحران في مجرى الزمن، وكأنّ في قلبه
صوتًا لم يُسمع بعد، يهمس له عن طقسِ ماعين لهذا الأسبوع. فإذا أبحرَ الليلُ دون غيمٍ كثيف،
وإذا هبَّتِ الريحُ من الجنوبِ الغربي، علم أنّ المطرَ سيأتي بلا موعد، وإذا امتلأت السماءُ بضياءٍ غريبٍ
وجاءت ريحٌ فيها صوتٌ رتيبٌ، أعلنَ أنّ الثلجَ على العتبات.
كانت القريةُ كلها تفهمُ الإشاراتِ دون كلمات. لا تهويلٌ في الأحاديث، لا نزعةُ ذعرٍ ممزوجةٌ بالمبالغة،
لا صوتٌ يعلو على صوتِ الطبيعةِ. لم يكن هناك تلفازٌ يُحَرِّضُ الناسَ على أن يخافوا، لم يكن هناك
متنبئون يثرثرون أكثر مما يسمعون. كانت الريحُ تكفي، كانت الغيومُ تكفي، وكان القمرُ حين يغيبُ
فجأةً وراءَ سديمٍ غير مألوف، يروي كلَّ الحكاية.
في احدى ليالي ماعين ذاك الزمان، حيث كان الليلُ يشوبه ضياء غريب “مُبَحَّرًا”، تجلَّت الحقيقةُ ببطء،
كما لو أنّ السماء تستعدُّ لهبوطٍ آخر غيرِ مرئيّ. الرياحُ كانت تعصفُ كأنها تحملُ شيئًا ثقيلًا من
البعيد، ثم توقّفت فجأةً، كأنما أخذتْ نفسًا طويلًا قبلَ أن تدفعَ بالعالمِ إلى الصمتِ. لم يكن هناك
وعدٌ واضح، لكننا كنا نعلم. كان إحساسُ الانتظارِ كئيبًا كحزنٍ قديم، مشحونًا بما لا يُقال، كأنّه صلاةٌ
مُعلَّقةٌ بين الأرضِ والسماء.
ثم جاء الصباح، لكن ليس كما يأتي كل صباح. كان البياضُ ممتدًّا في كلِّ الجهات، كأنّ الأرضَ قد
نسيت لونَها الأصليَّ، وكأنّ البياضَ أزاحَ كلَّ الذكرياتِ التي سبقته. حتى الأصواتُ كانت غائبة، كأنّ
الكونَ دخلَ في حالةٍ من التأمُّلِ العميقِ، لا يكسرُه سوى صوتِ عصفورٍ يتشبَّثُ بحافّةِ النافذةِ، كأنّه
تفاجأ أيضًا بأنّ العالمَ تغيَّرَ أثناءَ النوم. لم يكن الثلجُ مجردَ تراكمٍ للمطرِ المتجمِّد، بل كان حضورًا
روحانيًّا، مساحةً جديدةً للزمنِ، لحظةً تجمّدتْ فيها الأيامُ، كأنّ الكونَ توقّفَ عن الحركةِ لبرهةٍ ليتأمّلَ
نفسه. وكان هناك صوتٌ يأتي من الكبار: “لا مدرسة اليوم!”
لم تكن فرحةً بالهروب، لم تكن فرحةَ كسلٍ أو غياب، بل كانت غوصًا في شيءٍ نقيّ، شيءٍ لم تمسّهُ
الأيدي، لم تُلطِّخْه الأصواتُ، لم تُفسِدْه العيونُ. كان البياضُ في الذاكرةِ أكثرَ بياضًا، لأنّ الذاكرةَ حين
تحتفظُ بشيءٍ نادر، تُعيدُ خلقَهُ في صورتهِ الأكثرِ نقاءً. لم يكن الثلجُ مجردَ حدث، بل كان درسًا غيرَ
مكتوب، دعوةً للتخفُّفِ من الضجيج، درسًا في الإنصاتِ، في الترقُّبِ، في فهمِ لغةٍ لا تُقالُ، لكنها
تُحَسُّ في العظم.
وفي المنازل، كان الماءُ يُستخرجُ من الثلجِ، يُذابُ فوق النيرانِ بصبرٍ طويلٍ، لأنّ الوصولَ إلى البئرِ كان
صعباً. وكانت النوافذُ تتنفّسُ بهمهماتِ دفءِ غيرِ ملموسٍ يتسلّلُ من الداخلِ إلى الخارج، فتغطّي
الزجاجَ بطبقةٍ ضبابيةٍ نرسمُ عليها بعضَ أحلامِنا التي لم تأتِ بعد، أحلامًا قتلها أناسٌ مسؤولونَ
أنتجوا لنا ثقافةَ المرتعبين من الثلج. كنا أطفالًا نلتصقُ بالزجاجِ ونراقبُ الثلجَ، نراقبُ العالمَ كما لو
أنّنا ننظرُ إلى لوحةٍ لم يرسمها بشرٌ من قبل. لم يكن الثلجُ حاجةً للحديث، لم يكن موضوعًا للجدلِ، بل
كانت تلك اللحظاتُ حين يسقطُ الثلجُ، يتوقفُ معهُ الزمنُ، يهدأُ كلُّ شيء، ويتحوَّلُ العالمُ إلى صمتٍ
يُشبهُ البدايات.
عندما يهطلُ الثلجُ، يغسلُ كلَّ شيءٍ، حتى الحنين، حتى الأسى، حتى الأيامَ التي ظننا أنها لن تُنسى.”
كبرنا، ولم يعُد الثلجُ هو الثلج، ولا الصباحاتُ هي الصباحات، صارت الأخبارُ تُعلنُ عن الثلجِ قبلَ أن
يأتي، وتقتلهُ قبلَ أن يولد، صار البياضُ مخلوطًا بالخوفِ، صار الوقتُ مسمومًا بالتوقّعات. أمّا
الحقيقة، فقد بقيت هناك، في العيونِ التي عرفتْ، في البيوتِ التي انتظرتْ، في صمتِ الليلِ المُبحِرِ،
وفي العصفورِ الوحيدِ الذي وقفَ ذاتَ يومٍ على النافذةِ، متسائلًا إن كان الثلجُ الذي رآهُ آنذاك…
سيتكرَّرُ مرةً أخرى.