من خلال حواراته وندواته ومحاضراته
يوسف بكّار
-1-
فقد أنجزت، إلى الآن، عن الرّاحل الكبير إحسان عبّاس أربعة كتب هي على التّوالي:
(1) سادن التّراث: إحسان عبّاس (المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر – بيروت 2001).
(2) حوارات إحسان عبّاس (المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر – بيروت 2004).
(3) إحسّان عبّاس: أعمال وندوات ومحاضرات (دار جليس الزّمان – عمّان 2010).
(4) إحسان عبّاس: معالم وصلات (دار صادر – بيروت 2012).
وأحصيت له فيها، بعد جهد واستقراء، ثلاثة وعشرين (23) حوارًا: ثمانية عشر في الثّاني، وأربعة في الثّالث، وواحد في الأخير؛ وجدت في كثير منها وفي بعض ندواته ومحاضراته التي نشرتها في بعضها وفي ما نشره تلميذي النجيب اللّامع الوفيّ الدّكتور عبّاس عبد الحليم عبّاس في كتابه «أوراق مبعثرة» (عالم الكتب الحديث. أربد – الأردن 2006).
وجدت آراء وقضايا جديدة مهمّة غير التي في «سدانة النّقد» القسم الأوّل من «سادن التّراث: إحسان عبّاس» في النّقد القديم، وأُخرى عن النّقد الحديث. وهي جميعًا حَرِيّة بأن ينبّه عليها لتضاف إلى تراث الرّجل في القديم والحديث.
-2-
تعود صلة إحسان عبّاس بالنّقد العربي قديمه وحديثه إلى بدايات العشْريّة الخامسة من القرن العشرين، واستمرت طوال حياته.
فأمّا النّقد العربي القديم تحديدًا، فكان فارسه المغوار، ومؤرخه الدّقيق العميق، ومؤصله القدير البارع، ومقيم كيانه المنيع بكتابه الفريد الذي لم يكتب مثله إلى الآن، والذي طبع مرّات «تاريخ النّقد الأدبي عند العرب: نقد الشّعر» (1971) بدءًا من القرن الثّاني الهجري وانتهاء بلسان الدّين بن الخطيب هو ما درسته في «سادن التّراث». لقد اقتحم حماه مدجّجًا بعدّة معرفيّة متنوعة وأجهزة قرائيّة قديمة وحديثة، ومدفوعًا بمسوّغات ومسببات عمليّة كشف عنها في «تاريخ النّقد الأدبي عند العرب، ص13. دار الشّروق – عمّان 1993) بقوله: «وقد كان يحدوني إلى هذا العمل شعوري بأنّ النّقد عند العرب في حاجة إلى استئناف النّظر والتّقييم إذا أنا قرأت ما كتب عنه من مؤلفات حديثة، وإحساسي وأنا أقرأ الكتب النّقديّة القديمة المختلفة التي كتبها الأسلاف أنّ فيها ما يستحق بذل الجهد، ليعرض ذلك النّقد بأمانة وإنصاف».
لقد أقام لنقدنا القديم كيانًا راسخًا وبنيانًا شاملاً باعتماده هذه الأسس والقواعد: احتذاء منهج التّدرج الزّمني، والوقوف عند القضايا الكبيرة الأساسيّة والإعراض عن الجزئيّات، وتناول المفاهيم النقديّة التنظيريّة والإجراءات التّطبيقيّة معًا، والنّظرة المتكاملة في دراسة القضيّة النّقديّة الواحدة كتعريف الشّعر مثلًا. الطّريف اللّافت حقًّا في هذا كلّه ريادته في دراسة بعض القضايا في ضوء «مفهومات النقد الحديث» دونما افتئات أو تطويع.
أمّا الدّراسات الأدبيّة، والنقديّة النظريّة والتطبيقيّة في أدبنا الحديث فله فيها ستة كتب وعدد كبير من البحوث والمقالات، حسبه أنّه تولى في بعضها ريادة الكتابة عن بعض الأنواع والأجناس الأدبيّة: «فنّ الشعر» (1953) و”فنّ السيرة» (1956)؛ وأنّه عبّد الطّريق بالكتابة عن روّاد الشّعر الجديد وشعرهم بما كتبه من مقالات مبكّرة عن نازك الملائكة، وبكتابيه عن عبد الوهّاب البياتي وبدر شاكر السّيّاب: «دراسة في أباريق مهشمّة» (1955) و”بدر شاكر السّيّاب» (1969)، وبكتابه اللّاحق «اتجاهات الشّعر العربي المعاصر» (1978). ناهيك بعدد آخر من البحوث والمقالات والحوارات التي ذكرت.
– 3 –
على الرّغم من عُدّة إحسان عبّاس المعرفيّة المكينة فإنّه، باعترافه هو، لم يكتب النّقد النّظري لسببين: أحدهما أنّه نشأ على الأيديولوجيا والنّظريّات حتّى تشبّع منها وراح يملّ من تردادها؛ والآخِر أنّه كان أُستاذًا والأستاذ الحقّ يحتاج إلى أن يُفْهِم طلّابه كيف يمكن تطبيق المعلومات النّقديّة التي يتعلمونها علمًا أنّ النّقد التطبيقي يحمل أيديولوجيا في طياته (إحسان عبّاس: أعمال وندوات وحوارات، ص209 – 210).
كانت مرجعياته النّقديّة وتأثراته تمتح من النّقدين القديم والحديث. يقول: «أجد ثلاثة أرباع أدواتي في نقد الشّعر من ميراث الجرجاني (عبد القاهر) وغيره من النقّاد العرب، وربعها عند (كوليرج) و(إليوت) وغيرهما» (المصدر نفسه 206) كما هو آت كذلك. بيد أنّه لم ينكر تأثره، مثلًا، بـِ «يونغ» ومن ساروا على طريقه في اللّاوعي الجمعي تأثّر بناء مارسه تطبيقًا، لكنّه لم يكن «فرويديًّا» لأنّه يكره أن تُفتت القصيدة لإثبات أنّ الشّاعر كان شاذًّا مثلًا، ولأنّه كان يريد أن يصل إلى الفنّ ولا يهمّه الشّخص (المصدر نفسه 210).
– 4 –
كان يرى أنّ النّقد صعب، ومن أشقّ ضروب الكتابة، ولا يقلّ مشقّة عن العمل الإبداعي (المصدر نفسه 215 – 216)، وإن لم يبلغ أن يكون علمًا واضح المعالم والحدود مستقلًّا في مصطلحه، حاسمًا في اتخاذ قواعده وقوانينه؛ لأنّه كان وما زال عالةً على العلوم الأُخرى (سادن التّراث 81). لكنّه جازف، على الرّغم من هذا، وعرّفه بأنّه «فعاليّة بينيّة وسطيّة بين فعالتين أو منطقتين. فهو الحلقة التي تتوسط بين الأدب والجمهور، وهو يستمد من الثّقافات المعرفيّة وفنون الأدب…؛ ومنطقة تطغى من جهة على العلم ومن جهة أُخرى على الفنّ،… وقائم بين اعتبارات موضوعيّة وأُخرى ذاتيّة… وإذا لم يستطع أن يحفظ التّوازن الضّروري بين المنطقتين الواقعتين على حدّيه تورّط في الخطأ أو الإخفاق» (أعمال وندوات وحوارات 81).
الموضوعيّة عنده «أداة» لا مناص منها، فهي الوسيلة لاختراق الرّكام من الكمّ إلى النّوع، والقدرة على التّحليل والتّعليل وإفراز القيم العامّة التي تفوت التّذوق العابر، والنّظرة التي توجد القاسم بين الفئات المتفاوتة في أذواقها وثقافتها، والرُّجحان الذي يخفّف من غلواء الانطباعيّة الذاتيّة في مجالي الإعجاب المطلق والذّم المطلق؛ وهي الكشف البصير عن الخصائص المميزة. والنّقد لا يقاس دائمًا بمقياس الصّحة أو الملاءمة للتّطبيق، إنّما بمدى التّكامل في منهج صاحبه. فمنهج ابن طباطبا العلوي وقدامة بن جعفر من القدماء، مثلًا، قد يكون مؤسّسًا على الخطأ في تقويم الشّعر وفقًا لنظرتنا اليوم، غير أنّه جدير بالتّقدير لأنّه يرسم أبعاد موقفٍ فكريٍّ غير مختلّ، هو الذي يبحث عنه دارس تاريخ النّقد ليدرك الجديّة والجدّة لدى صاحبه في تاريخ الأفكار.
– 5 –
كان هدفه من تأليف كتابه الرّائد في التأريخ للنّقد الأدبي القديم أن يبرز النّاحية النّقديّة عند العرب ليعرفوا أنّ لديهم تراثًا نقديًّا، دون الحكم له بالجودة أو عدمها، قبل أن تدهمه وتدهم النّقاد مركبة النّقد الغربي الحديث، ولا سيّما أنّ صدوره تزامن مع اشتداد حركة «النّقد الجديد» في الغرب، وأوائل ظهور «البنيويّة”؛ لأهميّة النّقد في العصر الحديث وانحسار شأن البلاغة علمًا مستقلاًّ.
على الرّغم من كلّ هذا رأى أنّ العرب لم يتصوّروا النّقد موضوعًا رئيسيًّا، لأنّ همّتهم كانت منصرفة إلى تقرير الأُصول البلاغيّة التي تضمّ لمحات نقديّة، وأنّ النّقد مقيّد بمواصفات علوم أعصاره من لغة ونحو ومنطق وفقه وفلسفة ميتافيزيقيّة (حوارات إحسان عبّاس 125).
ورأى أنّ نقدنا القديم ذو جانب نظري خصب غنيّ نشأ في أحضان الموروث الشّعري، وفي ظلّ المعطيات الثقافيّة السائدة آنذاك (سادن التّراث 85 – 87).
ليس يساورني شكّ في أنّ بحثه القيّم «النقد العربي القديم من خلال مفهومات النّقد الحديث»، الذي نشر عام 1972 بعد عام من صدور كتابه الأُمّ، هو عصارة ما جاء فيه عمّا قد يكون بذورًا نقديّة حديثة فصّل فيها القول، وضرب لها الأمثلة، لكنّه احترز فقال «فالنّظرة إلى النّقد العربي القديم من خلال مفهومات النّقد الحديث ربما كانت جائرة على طبيعة ذلك النّقد وظروفه، لأنّ علومًا كثيرة قد جدّت منذ يومئذٍ، ولأنّ مصطلحًا نقديًّا آخر أو مصطلحات… قد احتلّت السّاحة مكان المصطلحات القديمة». لذا رأى، من خلال الاكتفاء بتعريف القدماء للشّعر، مثلًا، أنّه «الكلام الموزون المُقفّى» دون أن يتابعوه في النّقد العربي كلّه ويتعرفوا على ما طرأ عليه من إضافات، رأى «أنّنا ألحقنا بالنّقد العربي جَوْرًا كثيرًا حين لم نتعهده بالدّراسة الشّاملة الدّقيقة…».
فأمّا نشأة النّقد في أحضان الموروث الشّعري فمثّل لها بالوحدة في القصيدة التي لم يكشف النّقد فيها عن أهميّة ما كان عند ابن قتيبة والحاتمي في الأقل؛ أمّا نشأته في ظلّ المعطيات الثّقافيّة آنذاك فاستشهد عليها بابن طباطبا في «عيار الشّعر» وقدامة بن جعفر في «نقد الشّعر”؛ إذ حاول الأوّل أن يقيّم الشّعر على أساس الصّدق المطلق في كلّ شيء، في حين ربط الآخِر بين الشّعر والفضائل الإنسانيّة مستعيرًا مصطلحات الصّحة المنطقيّة في الحكم على جودته. على الرّغم من أنّ هذا كان أمرًا سليمًا مرهونًا بظروفه، فإنّه لا يخدم نقدنا الحديث، لكن لا يمكن إنكاره جملة لأنّ له فيه ما يناظره. فثمة نقّاد يتخذون من علم النّفس منطلقًا، وآخرون يتبنّون بعض قواعد علم الاجتماع مثلًا.
مهما يكن فقد دلّته دراسته المتأنيّة الدّقيقة لتاريخ النّقد العربي القديم على أنّ فيه ما هو قمين بأن يُدرس في ضوء «مفهومات النّقد الحديث» على أن تُراعى سعة دلالة هذا المصطلح وما تتضمّنه من مسائل قد لا تجري دائمًا على اتساق وانسجام، وما قد يكون فيها من تناقض وتضارب.
من تلك القضايا الجديرة بالعناية والدّرس: ربط ابن سلاّم والجاحظ، مثلًا، بين الشّعر والبيئة وإن كان لمحًا؛ وإيماء حازم القرطاجنّي بأنّ الشّعر يصدر عن التّجربة ومعاناة الحياة وإنْ لم يطوّر هذا لا هو ولا من أتوا بعده؛ واللّمحات النفسيّة عند ابن قتيبة الدّينوري وابن شرف القيرواني وغيرهما.
ومنها، وثمّة غيرها، ثلاث قضايا كبرى تتصل بالنّواحي الفنيّة والقضايا الاجتماعيّة، هي: اللّفظ والمعنى؛ والصّدق والكذب؛ والعلاقة بين الأخلاق والشّعر، وما رافقها جميعًا من صراع وجدال.
ولقد تطوّرت هذه القضايا في النّقد الحديث، فصارت الأُوليان معًا، بشيء من التّحوير الضّروري، قضية واحدة هي «الشّكل والمضمون”؛ فأمّا الأخيرة فتحوّلت تحت وطأة العقائديّات الجديدة إلى ما يسمّى «الالتزام».
– 6 –
وماذا عن النّقد الحديث؟
حين سئل إحسان عبّاس عام (2003) عن «فوضى النّقد الحديث» (إحسان عبّاس: معالم وصلات 132 – 134). أجاب، في البداية، بأنّ الإحساس بالفوضى، في كلّ شيء، شعور طبيعي لدى كلّ من يحاول أن يطرح سؤالًا يتضمّن معيارًا تقييمًا؛ وأنّ الحاجة إلى التّنظيم ضروريّة حين ندرك أنّ ثمّة جهودًا تُهدر دون مردود، أو حين تستولي علينا الحَيْرة القاسية إزاء التّكاثر المتزايد في ظواهر لا نستطيع لها تعليلًا وتسويغًا. ثمّ عاد إلى لبّ السؤال، ورأى أنّ فوضى النّقد الحديث تتمثّل في أمرين:
الأوّل، خطأ فطريّ في تبيّن معالم الطّريق، وعدم الوقوف عند القاعدة الذهبيّة «رحم الله امرءًا عرف حدّه ووقف عنده» بحيث يكون النّاقد قدرة زائفة، أي فاسد الإحساس النّقدي، يجعل من نفسه حَكَمًا ويتصرّف على هواه.
والآخِر، اختلاف المنابع الثقافيّة، واختلاف المستويات الثقافيّة، وحِدّة الانقسامات الجزئيّة في أيديولوجياتٍ كثيرًا ما تكون متقاربة، وحاجة المؤسّسات الإعلاميّة إلى تغذية مستمرة.
لكنّه رأى، مع هذا، أنّه يمكن أن يُحَدّ من هذه الفوضى أو يُخفّف منها بتربية فنيّة أصيلة، وإحاطة وسائل الإعلام بقوى نقديّة، وبروز عبقريّة في كلّ ميدان فنيّ تكون مغناطيسًا ينظّم بُرادة الحديد المتناثرة من حوله.
– 7 –
وجرّ الكلام على فوضى النّقد إلى معرفة رأيه فيما يعرف بِـ «أزمة النّقد»، التي ربما تكون منبجسة عن فوضاه أو أصلًا فيها والتي بدأ يعترف بها منذ عام 1971 في ندوة مجلّة «الآداب» اللبنانيّة عن «أزمة النّقد الحديث» (إحسان عبّاس: أعمال وندوات وحوارات 129 – 144). التي أدارها هو نفسه، وشارك فيها رجاء النّقّاش وحسين مروّة والدّكتور ميشال عاصي.
كان يظنّ، بدءًا، أن ليس ثمّة من أزمة، بيد أنّ ما طرحه المشاركون أقنعه بوجودها جزءًا من أزمة الفكر العربي كلّه، فقال «ويتبيّن لي أنّني خاسر في هذه الجولة. فهناك فعلًا أزمة في النّقد، والدّليل على ذلك أنّ النقّاد يحسّونها قبل غيرهم. وإذا كنت آسفًا لهذا فأنا سعيد إلى ما آل إليه البحث من تبيين للأسباب والمظاهر الكبرى التي تمثّل هذه الأزمة».
وأعترف في محاضرة له بعنوان «خواطر حول النّقد العربي القديم والمعاصر» ألقاها بالنّادي الأدبي بجُدّة في (22/ 2/ 1987) بالأزمة اعترافًا صريحًا معلّلًا، وكشف عن أسبابها الآتية (إحسان عبّاس: أوراق مبعثرة 93 – 113):
(1) تنازل النّاقد الإبداعي، أو أُرغم على ذلك، للنّاقد الأكاديمي. النّقد الأكاديمي تحليلي حين يكون جيّدًا، لكنّه يجنح إلى التّفصيلات الجزئيّة بحيث لا يستطيع أن يستوعبه القرّاء الذين يتطلّعون إلى الإشراقات الذهنيّة والآراء المثيرة الموحية كما في النّقد الإبداعي. إنّ معظم النّقد الأكاديمي «ذو حَظٍّ وافر من البلادة؛ وأكثر ما يصدر من الدّراسات الأكاديميّة يتذرّع كذبًا بالتّحليل وهو سطحيّ تافه فيه من شقشقة اللّسان أكثر ما فيه من إعمال الفكر» (أعمال وندوات وحوارات 122 و 142).
(2) سرعة التّحول في المذاهب الشعريّة جعلت النّاقد عاجزًا عن تغيير قيمٍ نشأ عليها بالسّرعة نفسها.
(3) تدفّق طوفان الصّحف والمجلات أدّى إلى أن يتولّى الإفتاء في أمور النّقد من لا تتوافر فيهم الثّقافة اللازمة للنّاقد، في حين أنّه كان يجب أن تواكبه زيادة وفيرة في القادرين على الدّراسات النّقديّة؛ ناهيك بأنّ طبيعتها تتعارض مع طبيعة النّقد البطيئة التي لا تستطيع مماشاتها سرعة وتنظيمًا، وإذا ما ماشتها فلا حَيْدة عن أنّ يتمدّد النّقد أفقيًّا ويتسطّح. لكن لا نكران في أنّ لبعض المراجعات والتّعليقات حظًّا جيدًا من الموهبة النّقديّة.
(4) كثرة المجلّات عامل مهمّ في شرذمة جمهور النّاقد؛ فبعد أن كان يخاطب جمهورًا بعينه أصبح لكلّ مجلّة جمهورها؛ فضلًا عن أنّ العوائق بين الأقطار العربيّة زادت من صعوبة تحلّق جمهور كبير حول ناقد بعينه، فأضحى القارئ عاجزًا عن متابعة ما ينشر في كلّ قطر عربي.
(5) تقلّص النّخبة التي أخذ الشّاعر نفسه يتوجّه إليها، حتّى إنّ بعض الشّعراء لم يتحرّج من أنْ يصرّح بأنّه ليس في حاجة إلى جمهور لأنّه هو جمهور نفسه. وهذا «تزوير واضح، وإنكار لرسالة الشّعر وقيمة وصوله إلى الآخرين». ولقد جعلت هذه الحقيقة جمهور النّاقد يتقلّص أو ينعدم.
(6) الافتقار إلى مثقّف واسع الاطلاع. فثقافة النّاقد مهمّة، لأنّ النقد الأدبي حصيلة ثقافات عدّة يغلب عليها جانب ثقافيّ متميّز يوجد النّقد ويسمُه بسمته.
إنّ أهمّ محطّات الثّقافة أمران بالغا الخطورة: ضعف الصّلة بالتّراث، والتسرّع في تبني نظرية ما من النّظريات الغربيّة وفهم الإنتاج الأدبي على وَفْقها، وكلاهما ذو عواقب غير سليمة على النّقد. فأمّا الأوّل فلا علاج له إلاّ بقراءة التّراث قراءة جديدة واعية ومعرفة الإيجابيّات والسلبيّات، أمّا الآخِر فيأتي الكلام عليه، لطوله، في البند التّالي.
وعاد في حوار معه عام 1995 (حوارات إحسان عبّاس 76، وأوراق مبعثرة 104)، ليخفّف من وطأة المسألة، فنادى بأن يُوسّع المنظور ليشمل النّقد نقد الشّعر والرّواية والقّصّة والمسرحيّة والأداء المسرحي، لأنّه «إذا وسّعنا المنظور وجدنا أنّ النّشاط النّقدي بخير، وأنّه لا داعيَ لتصوّر أزمة في النّقد. فالذين يعتقدون بوجود هذه الأزمة ينظرون إلى نقد الشّعر وحدَه… ويغفلون الجهود النقديّة في الفنون الأخرى…».
علينا أن نوسّع منظور المكان وألاّ نحصره في قطر واحد؛ ومنظور فئات النّقّاد؛ فثمّة نقّاد محترفون، وأكاديميون، وبنيويّون، وأصحاب مذهب التّحليل. ناهيك بتفاعل النّقد المترجم مع الأصالة النّقديّة.
إذا فعلنا هذا يتجلّى لنا أنّ ثمّة نشاطًا نقديًّا جادًّا، وأنّ «الصورة ليست كئيبة، لكنها ليست بالغة الإشراق».
– 8 –
بالعودة إلى أمر التّسرع في تبني نظريّة ما من النّظريّات الغربيّة (حوارات إحسان عبّاس 24 – 25 و 106 و 133 و 136 و 163 – 164 و 194؛ وأوراق مبعثرة 111). مهدّ إحسان عبّاس له بأنّ الاتجاهات النّقديّة الحديثة، بعد مدرسة النّقد الجديد، كثيرة؛ وقد تأسّست على علم اللغويّات أو الألسنيّة، وحوّلت النّقد جذريًّا إلى علم ذي مصطلح لا يستوي النّقد إلاّ به. فإذا لم يكن النّاقد الحديث ملمًّا بالمصطلح بدقّة يخطئ في تطبيقه. والأفضل أن يقرأه في لغته، لأنّ التّرجمة لا تفيد كثيرًا لافتقارها إلى ما يقاربه بدّقة.
فأمّا إذا كان لا بدّ من الاقتراض أو الأخذ يجب أن نعي ما نأخذ، وندرك مدى صلاحيته لأدبنا كما فعل هو نفسه، إذ كان يحوّل ما يأخذ إلى عنصر من العناصر المتعدّدة التي يتعامل بها مع النّص المدروس الذي ينتمي إلى بيئة خاصّة به، لأنّ «الخصوصيّة أولًا وقبل كلّ شيء، فهي التي تميّز فنًّا عن فنٍّ آخر لأُمّة ما. فإذا انعدمت الخصوصيّة فأيّ فرق بين البيئة الفرنسيّة والبيئة المصريّة؟ وما الفرق بين متطلبات ومشكلات كلّ من البيئتين؟ وما الفرق بين الصّورة المستمدة من طبيعة الشّعبين؟» (حوارات إحسان عبّاس 31).
لقد كان ضدّ الاقتراض الشّديد اللامشروط، الذي يجعل الإنسان يتصرّف بما لا يخصّه، لكنّه مع الإفادة من الثّقافة النقديّة الغربيّة «شريطة إدراجها في منظور مميّز يعرف الفرق بين إشكاليّتنا الثّقافيّة وإشكاليّة الآخر».
لم ينتم إحسان عبّاس، كما سلف، إلى أيّة مدرسة نقديّة بعينها، لإيمانه أنّ كلّ عمل فنيّ قاعدة في ذاته تنتزع من النّاقد المنهج والأحكام التي تليق أن يُطبّق عليها، ولأنّه كان يفيد من كلّ مدرسة ما يمكن أن تمدّه به في حالٍ دون حال؛ وكان يقول لطلاّبه «إنّ كلّ قصيدة وكلّ نصٍّ نثري يحتاج إلى منهج خاص به. وهذا ما توصّلت إليه أخيرًا (1999)”؛ ويقول لهم، كذلك «لست من أولئك الذين يطبّقون منهجًا بعينه على جميع النّصوص الشّعريّة، ذلك أنّ هذه النّصوص أغنى بكثير من المناهج، بل إنّ المنهج الجديد لا يولد إلّا بسبب الجديد الشّعري الذي يحضّ عليه».
ربما كان مأتى ذلك كلّه ما باح به بجرأة: «أقرأ نقدًا لا أفهمه ولا أدري إلى من يتّجه هذا، كما لا أدري ما الفائدة أن أكتب قصيدة مقابل قصيدة… هذا النّقد لم أتعودْه ولم آلفه، ولا أدري مدى أثره في نفوس الآخرين؟ إنّما في نفسي لا أقول إن النّقد في أزمة، ولكن أقول إنّه ليس هناك نقد!…
النّقد في نظري دراسة متكاملة وليست تعليقات تُرسل هكذا جُزافًا… دراسة ذات منهج، والمنهج يجب أن يكون في حياتنا الفكريّة العامّة سواءٌ كنّا داخل الأكاديميّة أو خارجها. مثل هذا النّوع من النّقد غير موجود إلّا في القليل النّادر».
– 9 –
آخر موقف لإحسان عبّاس في نقدنا القديم والحديث معًا القضيّة الجدليّة «نظريّة عربيّة نقديّة» (راجع كتابي: في النّقد الأدبي: جدليّات ومرجعيّات 23 – 57. عالم الكتب الحديث – أربد 2014). فهو ذو رأي عميق فيها طرحه مفصّلًا في محاضرته «خواطر حول النّقد العربي القديم والمعاصر» التي تقدّمت الإشارة إليها، ثم أكدّه، بعد عشر سنوات، في حوار أجراه معه فيصل درّاج ومريد البرغوثي لمجلة الكرمل (1997 – حوارات إحسان عبّاس: الحوار السّابع) حين سألاه: «لكنّك بذلت جهدًا جليلًا في دراسة الشّعر، وفي دراسة الجهد النّقدي العربي الذي تعامل مع الشّعر. فلماذا لم تحوّل أعمالك المتفرّقة في الشّعريّة إلى نظريّة نقديّة أو إلى شيء قريب منها؟» لقد كانت صفوة رأيه، في المحاضرة والحوار، أنّنا لن نستطيع لا في القديم ولا في الحديث أن ننتج نظريّة نقديّة من وحي واقعنا وفكرنا سوى الخطوط العريضة للنّظريّة الجماليّة في مسائل مثل: الشّعر ضرب من الصّبغ والتّصوير، والنّظم، والتّناسب بين عناصر الشّعر: لفظ ومعنى، ومعنًى ووزن، ووزن وقافية وموضوع وآخر أحيانًا، وعمود الشّعر.
ليس بالإمكان وضع نظرية في النّقد الأدبي محدودة بمفاصل معينة لأسباب أهمّها:
1- التّراث النّقدي العربي، كما هو، لا يستطيع أن يحقّق هذه المهمّة؛ لكنّه يمكن أن يقدم إسهامات نظريّة خاصة بكلّ جنس أدبيّ على حِدةٍ.
2- لقد حصرنا الفكر الفلسفي في الشّؤون الميتافيزيقيّة في الغالب؛ وحين أسلم النّقد نفسه إلى أصحاب الثّقافة الفلسفيّة كالتّوحيدي وابن سينا والفارابي وابن رشد وحازم القرطّاجني احتكموا إلى كتاب «فنّ الشعر» لأرسطو في تصورهم للشّعر ووظيفته، ولم يكونوا نقّادًا تطبيقيين ليفيدوا كثيرًا منه.
3- فهمنا السّيء للنّقد الأدبي أنّه صور لمعارك بين اثنين أو فريقين كالذي دار، مثلاً، حول البحتري وأبي تمام وحول المتنبي قديمًا، ودار بين العقّاد والرّافعي، وطه حسين والرّافعي حديثًا. مثل هذه المعارك لا ينتج فكرًا نقديًّا، ولا يولّد نظريّة نقديّة.
4- معظم نقادنا في القديم والحديث شعراء. وهم، وإنْ لم يُحرموا من بصر في نقد الشّعر، يظلّون أسرى النّظرة الذاتيّة التي لم يستطيعوا أن يتخطوها إلى الموضوعيّة، وأن يتجاوزوا حدّ الإعجاب بشعرهم إلى اكتشاف النّواحي المتميزة في أشعار غيرهم.
5- أكثر الأحكام النّقديّة في القديم والحديث انطباعيّة.
6- ليس صحيحًا، كما تقدّم، أن تُستعار النّظريّات النّقديّة الغربيّة كما هي. إن يكن لا مناص من الأخذ فلنأخذ بفهمٍ ووعيٍ مدركين مدى صلاحيّة ما نأخذ لأدبنا على أن نعود إلى جذور النّظريّات النّقديّة لدى الآخرين ليعيننا هذا على توليد نظريّة نقديّة خاصة بنا.