قراءة هادئة في حادثة ترك المدرسة

قراءة هادئة في حادثة ترك المدرسة

بقلم: د. ذوقان عبيدات

لم أتفاجأ بالحدث، فطالما قلت عبر جريدة الغد في الأسبوعين الماضيين إن علاقة الطلبة بمدارسهم صارت ضعيفة،

وإن التوهان هو سمة علاقات الطلبة بالمدرسة، وكتبها، وبيئتها، وأهدافها، ومعلميها.

الكل يعرف أن الطلبة لا يحبون المدرسة بشكل عام، وأنهم يفرحون لأي عطلة طارئة،

وهذا سلوك قد يشاركنا فيه كل الطلبة في العالم، فالناس لا ترحب دائمًا بالسلطة، وتحاول التملص منها.

لكن طلبتنا تفردوا بالتعبير الواضح عن موقفهم حين مزقّوا الكتب ورموها، وأخيرًا الصرخة التي عبّر عنها الطالبان، والتي تمثلت بما يأتي:

1 – إن المدرسة قد فقدت بريقها ودورها في تخريج “موظفين” كما كانت في السابق، فالخريج كان يجد فرصة عمل لم تعد موجودة هذه الأيام.

ولذلك فإن البقاء فيها هو أمر يقود إلى جدار مسدود! حتى الجامعة باتت عاجزة عن توفير فرص عمل لخريجيها،

ولذلك كان تفكير الطالبين هو لماذا أنتظر ستة عشر عامًا على مقاعد الدراسة لأصل إلى البطالة، وأبدأ البحث عن عمل أستطيع إيجاده وتطويره من الآن؟

إن نظرة الطالبين هذه تتماهى مع دعوات عالمية من خبراء ومفكرين لتقليص عدد سنوات الدراسة!

2 -تنتهي الدراسة بعد ستة عشر عامًا بالحصول على شهادة برقم لا يعني شيئًا! إذن: اكتشف الطالبان من الآن أن العصر ليس عصر شهادات،

وأن المهارات أكثر قيمة من الشهادات! وهذا اكتشاف له ما يسوّغه، فقيمة الشهادات تتضاءل في سوق العمل لصالح المهارات!

3 – عبر الطالبان في رسالتهما عن أنّ ما يدرسه الطلبة في مدارسهم من معلومات يمكن الاستغناء عنها، والحصول على معارف ذات قيمة عملية نافعة،

ومن مصادر مباشرة بخلاف ما تمتلئ به الكتب المدرسية من معلومات وحقائق عفا عليها الزمن.

وهذه الفكرة تنسجم أيضًا مع واقع العصر الرقمي ذي الحقائق المتجددة!

إذن: يُحسَبُ للطالبين: راشد وأيهم أنهما قدمّا تحليلًا لواقع التعليم عجز عنه وزراء، ومسؤولون، وخبراء، وجامعات!

(1)

ردّ الفعل المجتمعي:

مع الأسف، لم يلحظ أحد رد فعل رسميًا وتربويًا، فالوزارات ومؤسساتها وجامعاتها عدّت الحدث كأنه لم يكن، وربما سيعاقَب الطالبان بعد عودتهما.

إن ردود الفعل الملحوظة جاءت من المصادر الآتية:

1 – خبراء تربويون غرقوا في نقاش حول قدرة الطالبين وهما في الصف العاشر على كتابة مثل هذه الرسالة القوية،

وصاروا يبحثون عمّن حرّض وكتب لهما، وأفسد عقليهما، ولكنهم لحسن الحظ أنهم اعترفوا بأن الرسالة من كتابتهما وبخط الطالب “المتميز ” راشد صبح!

وهذا ما أوضحته أنا منذ البداية، ولم أشك لحظة في ذلك!

2 -أدهشني طبيب نفساني أثار أسئلة حول مدى إلمام الطالبين بمعلومات عن الإمام الشافعي،

أو أين تعلم “الطالبان “مهارة الكتابة! في تشكيك واضح بقدرات الطالبين.

3 -ركز جمهور كبير على كتاب “الأب الغني والأب الفقير” كونه المتهم الأساس في إفساد عقول الطالبين،

متجاهلين أنهما قرأا في مدارسهما عشرات الكتب المدرسية والتي لم تعصمهما من الوقوع في براثن الكتاب “السيئ”.

4_ هناك من تعامل مع الطالبين معاملة الفارين والهاربين، واستخدموا مصطلحات مثل، تم إلقاء القبض عليهما،

وهناك من خشي من أن يكونا نموذجًا لتدمير الأسرة والمدرسة وهما المؤسّستان الوحيدتان لحماية الوطن والهوية.

(3 )

ملاحظات

إن مقاربتي لهذا الحادث، تبعد عن التفاصيل مثل؛ من كتب؟ ومن حرض؟ وهل أحاديث الشافعي التي استند إليها “الطالبان” قوية أو ضعيفة؛ ما يهمني هو:

ما علاقة الطلبة بشكل عام بمدارسهم، ولماذا تدنت إلى هذا الحد؟ كيف ينظرون إلى الكتاب، المعلم، المدرسة؟

ولماذا حدث البغض إلى درجة الطلاق؟

أوضح أوّلًا أن الحدث فردي، ولكنه يمثل حالة جمعية موجودة كظاهرة كامنة عند كثيرين من الطلبة، ولكنهم لم يتركوا المدرسة كما فعل الـ”طالبان”.

فمديرو المدارس ومديراتها يجاهدون في حماية طلبة التوجيهي من عدم انتظام الدوام؛ لأنهم يعدّون الدوام المدرسي ضياعًا مجانيًا لوقتهم!!

ولولا الخشية من العقوبات لأُغلقت صفوف توجيهي عديدةً! فنظرة الطلبة إلى المدرسة هي عامة،

لكن ما فجرها الـ”طالبان”: راشد وأيهم!. وعلينا نحن والمسؤولون أن نقارب الأمر هكذا قبل فوات الأوان!

إنّ إعادة الطالبين إلى المدرسة عنوةً لا يحل المشكلة، ولن يساعد في تحسين سمعة المدارس والجامعات! ولن يحل مشكلات توهين العلاقات المدرسية!

نسمع تحليلات ساذجة أبرزها:

1 – إن كتاب الأب الغني والأب الفقير كتاب تافه “لا يستحق الحبر المهدور في كتابته!

لن أدافع عن الكتاب، لكن لا يوجد برأيي كتاب لا يستحق الحبر المهدور! طبعا هم يفترضون أن المشكلة في الكتاب،

أو في حديث ضعيف عن الشافعي، ولذلك قد يرون أن كتاب الأمير لِـ”ميكافيلي” هو المسؤول عن فساد الحكام،

والحرامية، ومعاهدات السلام! فالفاسدون أبرياء لولا سيئ الذكر ميكافيلي!!

2 – تفلسف مسؤولون بأن مهمة المدرسة ليست المساعدة في جمع المال وتشغيل الطلبة!

إن مثل هذا القول الساذج تسطيح لأهداف المدرسة والتعليم، ولعلهم لم يسمعوا أن أهداف التعليم في القرن الحادي والعشرين هي أهداف حياتية:

تعلّم لتعيش، وتعلّم لتعمل، وتعلّم لتكون، وتعلّم للعيش مع الآخرين! وهذا برأيي ما طالب به “الطالبان” ولم يدركه ناطق باسم الوزارة مع الأسف!

(4)

هل انتهى عصر الشهادات؟

أثار د. محمود المساد سؤالًا مهمًا جدّا أمس في اجتماع في المجلس العربي للموهوبين والمتفوقين:

إذا كان العصر عصر مهارات، وليس عصر شهادات، فمتى يمكن أن نرى الجامعات تنطلق بهذا الاتجاه؟

وهل يمكنها أن تعين مدرسًا لا يحمل درجة علمية مرموقة؟ هل يمكنها أن تكلف مدير شركة ناجحًا بتقديم مساق في النجاح الإداري؟ وهل يمكنها التخلي

عن شروط التعيين مثل: طلب شهادة دكتوراة من جامعة متقدمة؟ ماذا تعني الشهادة؟ وكم من حامل متخم بشهادات دَخل الجامعة، ولم “يُتخِمِ” على رأي أحمد شوقي!

لعل المطلوب هو البدء منذ لحظة ترك الطالبين لمدرستهما أن يجلس خبراء الدولة- ممن لم يسهموا في تخريب التعليم- في وضع الحلول؟

هناك بدهية تقول: من صنع المشكلة لا يستطيع الإسهام في حلها! لذلك نريد فريق عمل خاليًا من كل”أقزام” التعليم!

هذا مطلب المنطق!

فهل للدولة منطق؟!!!

 

تصفح ايضا

عاجل