التخيل أهم من المعرفة

التخيل أهم من المعرفة

 

 

كتب احمد الاقطش                                       

في سبعينيات القرن الماضي، وبسبب هيمنة بعض القوى السياسية على مجلس التربية والتعليم، تم إلغاء

أهم مبحث يميز نتاج المحور التربوي عند الطالب، ألا وهو مبحث  الفلسفة، الذي يُعدّ أحد أهم أشكال الوعي

الاجتماعي، وجاء هذا القرار بالإلغاء لأسباب غير منطقية! أو كما يُخيّل لكل من خاض غمار الفلسفة وشرب

منها،

أنّ ألغاءَها جاء بسبب وضوحها البديهيّ لا غموضها الذي اتُّهمتْ به، وجاء كذلك لأنّ الفلسفة تسعى وراء

رؤية العالم كما يجب لا كما تريد النخب السياسية، وجاء أيضًا لأنّها -أي الفلسفة- توضّح علاقة الفكر بالوجود،

و(الأطيقا والأستيطيقا)، وما إلى ذلك وهو كثير. كلّ هذه البركات التي تتركها الفلسفة تساعد التلميذ على

اتخاذ موقف عادل من الحياة.

تفعّلت الحركات الطلابية في المدارس والجامعات الأردنية في الربع الأخير من القرن الماضي، لأسباب محلية

متعلّقة بالنواحي الاقتصادية وتكاليف التعليم، وأسباب أخرى منعكسة عن المحيط الحافل بكثرة الصراعات

وضرورة اتّخاذ موقف وطني من العدوّ الأول في المنطقة، مما أسهم بشكل كبير في إفراغ المحتوى التعليمي

والتربوي، وتسطيح الأفكار القومية وتهميشها.

ولم تكن هذه الحركات الطلابية لتظهر لولا وجود المباحث التي تُقوّم شخصية التلميذ، ومنها مبحث الفلسفة.

 قوبلت هذه الحركات بالوأد -إذا صحّ التعبير- من قبل المتنفّذين من النخب السياسية والاقتصادية، مما انعكس

على المجتمع ككل، أما عند التلاميذ فقد بدت الغرف الصفية وقاعات المحاضرات بلا أي ملامح فكريّة محمولة بآراء فلاسفة كالغزالي أو كانط أو هيجل، أو حتى كارل ماركس. كما جاء الردّ على الحركة الطلابية بإغلاق قسم الفلسفة في الجامعة الأردنية.

ولا بدّ من القول بأن المقاربة بين شقّي التربية والتعليم -خارج هذا التركيب المتداول-  مقاربة قاسية فعلا؛

ففي الشّقّ الثاني يحصل الطلبة على المعارف فتتسع آفاقهم، ويصير بوسعهم الاندماج في الواقع والمحيط،

والمساهمة في مختلف ميادين الحياة العامة والخاصة. وفي المقابل، فما يميّز التربية عن التعليم هو كونها لا

تكوّن في التلاميذ القدرة على القيام بهذا العمل أو ذاك فحسب، وإنما تنمي فيه الصفات الشخصية الفُضلى،

مثل القناعات الإيجابية والمبادئ الأخلاقية والقيم السامية والنزعات الإنسانية والبواعث الإبداعية وسمات

الطبع.  وهي -أي التربية- تبني في ذهن التلميذ الموقف الصحي اللازم من الواقع ومن الآخرين، وتطلق لديه

وجهة النظر مما يجري في الوطن والإقليم والعالم ككلّ. وقد يكون هذا التطور المرجوّ في شخصية الطالب تطورًا

بطيئًا، لكنّ له أثرًا عميقًا في بناء عقليّته ونفسيته، وتمكينه من القيام بواجباته تجاه نفسه والمجتمع. والجدير

بالذكر أنّ احتمالية أنْ يكون التأثير سريعا، تعتمد على الفروقات الفردية بين التلاميذ، تلك الفروقات المتصلة

بالبيت والأسرة والمكانة الاجتماعية.

في الحقيقة، فإن الفلاسفة رغم أهوال معاناتهم منطقيّون ومنتجون،  يتصفون بالكرم الاجتماعي الفكريّ، وهذه

صفات يفتقر إليها تجار السياسة وسماسرة الاقتصاد كما يبدو من خلال سذاجاتهم غير الواعية، ولكنهم تمكّنوا

سابقًا من تأجيج الرأي العام  ضدّ الفلاسفة، وبالتالي ضد مبحث الفلسفة. وهذه ادّعاءات لا تُغتفَر، لأنّ جُلّ

الفلاسفة انتهوا نهايات محترمة؛ منذ سقراط وحتى ناهض حتر.

انطفأت قصة الفلسفة في الأردنّ موطن الحضارات القديمة ومربع الفلاسفة، وأخشى أن يكون الجدل الفاعل

حول عودتها إلى غرف المدارس الصفيّة جدلًا بقدر انسجام هذه العودة مع توجهات المنظمات الدولية

كاليونسكو وما تحمل هذه المنظمات من  أفكار غامضة أكثر من أفكار الفلسفة نفسها، لا سيّما في هذه

الحقبة من تاريخ المنطقة. ولعل الفلسفة إذا عادت يعود معها كل ما كان جميلا في ذلك الزمن. فلنتّجه بالدعاء

إلى الله لكي تظلّ العملية التربوية والتعليمية الأردنية عمليّة متكاملة ذات طابع أردنيّ أصيل، على طريق تكوين

الشخصية الفلسفية بهويتها الأردنية العربية الترنسندنتالية.

تصفح ايضا

عاجل